كثيرًا ما يُختزل الخلاف القانوني في عبارة: «النص غير واضح»، وكأن الغموض صفة ملازمة للتشريع، أو أن النظام قاصر عن البيان.
غير أن التجربة العملية، والنظر المتأني، يكشفان أن الإشكال في الغالب لا يكمن في النص ذاته، بل في طريقة قراءته وفهمه وتوظيفه.
فالنص القانوني – في أصله – وُضع ليُفهم، لا ليُربك، وليُطبّق، لا ليُؤوَّل بلا ضابط. لكن المشكلة تبدأ حين يُقرأ النص خارج سياقه، أو يُجتزأ من بنيته، أو يُحمَّل ما لا يحتمل.
النص شيء… وفهم النص شيء آخر
النص ثابت في ألفاظه، لكن فهمه متغير بتغير:
- القارئ،
- والمنهج،
- والسياق،
- والغاية من القراءة.
فليس من يقرأ النص قراءة تعليمية، كمن يقرأه قراءة قضائية، ولا من يقرأه في إطار نظري، كمن يواجه به واقعة حية متشابكة.
ولهذا، فإن كثيرًا من التعارض الظاهري بين الأحكام، أو الاختلاف في التكييف، لا يعود إلى تناقض في النصوص، وإنما إلى تعدد زوايا النظر إليها.
القراءة التجزيئية: مدخل الخلل الأول
من أكثر أسباب الاضطراب شيوعًا: القراءة التجزيئية للنص؛
أن يُؤخذ جزء من المادة، أو عبارة من لائحة، وتُفصل عن:
- باقي النص،
- أو عن النظام ككل،
- أو عن مقصد المنظم.
فيتحول النص من أداة ضبط، إلى مادة جدل، ومن إطار منظم، إلى ساحة تأويل مفتوح.
والنص القانوني لا يعمل منفردًا، بل ضمن منظومة مترابطة، لا يستقيم فهمها إلا بالنظر الكلي، وربط الجزئيات بأصولها.
بين ظاهر النص وروحه
ليس كل وضوح لفظي كافيًا للفهم الصحيح، كما أن الغموض اللفظي لا يعني دائمًا غموض المعنى.
فكم من نص ظاهر، أُسيء تطبيقه لأنه فُهم بمعزل عن علّته، أو أُهملت غايته.
ولهذا، فإن القراءة المنهجية تقتضي:
- فهم النص في سياقه النظامي،
- واستحضار الغاية التي شُرع من أجلها،
- وربط الحكم بواقعه لا بمجرد ألفاظه.
الواقع ليس خصمًا للنص
من الأخطاء الشائعة تصور أن الواقع يقف في مواجهة النص، أو أن التطبيق العملي يُفسده.
والصحيح أن الواقع هو ميدان اختبار الفهم الصحيح للنص، لا نقيضه.
فالنص لا يُنزّل في الفراغ، وإنما يُطبّق على وقائع متغيرة، تتطلب فقهًا دقيقًا، لا تلاوة حرفية.
وحين يفشل النص في التطبيق، فالسؤال الأصدق ليس: هل النص معيب؟
بل: هل كانت قراءتنا له سليمة؟
جَلي ومنهج القراءة
جَلي لا تنطلق من فرضية نقص النصوص، ولا من اتهام الأنظمة بالغموض، وإنما من قناعة أن تحرير طريقة القراءة هو المدخل الحقيقي للإصلاح الفهمي والقضائي.
فالوضوح لا يتحقق بتبسيط مخل، ولا بتعقيد مصطنع، بل بمنهج:
- يقرأ النص في كليته،
- ويربطه بسياقه،
- ويزن تطبيقه بميزان الواقع.
خاتمة
ليست أزمة القانون في قلة النصوص، ولا في وفرة الأنظمة، وإنما في القراءة التي تفصل النص عن روحه، وتجزئه عن بنيته، وتغفله عن واقعه.
ومن هنا، فإن أول خطوة نحو فهم قانوني سليم، ليست البحث عن نص جديد، بل إعادة النظر في كيف نقرأ النص الذي بين أيدينا.